الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
إذ لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدمًا إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى.وقد ألف في المسألة رسالة كما قال الجلال السيوطي وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعًا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدمًا في المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدًا لذلك نظير إن أحسنت إلى أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] صدر عنه عليه السلام إظهارًا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانًا بأن ما سبق منه إنما كانب طريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدًا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك. وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما تقصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعًا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة {كَانَ} للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانًا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: {فَأْتِنَا بما تَعِدُنَا} [هود: 32] من قوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} [هود: 33] ردًا عليهم من أول الأمر وتسجيلًا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال قال ذلك مولانا شيخ الإسلام ثم إن {إِنْ أَرَدْتُّ} أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحًا قبل منه، واللام في {لَكُمْ} ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله: لما في الصحاح أنه باللام أفصح، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها، فقيل: إن {يُغْوِيَكُمْ} عنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك، وقد روى مجيء الغوى عنى الهلاك الفراء. وغيره، وأنكره مكي.وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغوائهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازًا، وقيل: إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفى ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون {لاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} إلخ إخبارًا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثني عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.وبالجملة الآية ظاهرة جدًا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق {هُوَ رَبُّكُمْ} أي خالقكم ومالك أمركم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
وقرئ {إِجْرَامِى} بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس: جمع جرم، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقال بإجمال أئمة العرب، وأجاب أن المراد كما قال ابن السراج إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] {وَأَنَاْ بَرِيء مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، قيل: والأصل إن افتريته فعلى عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء، وعدل عنه إدماجًا لكونهم مجرمين، وأن المسألة معكوسة، وحملت {مَا} على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله: {إِجْرَامِى} فيما قبل، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر، وعليه الجمهور، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نوح، قيل: وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقًا لحقيقتها وتأكيدًا لوقوعها وتشويقًا للسامعين إلى استماعها لاسيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه، وقال في الكشف: إن كونها في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} كالتكرير لقوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضًا يقولون {افتراه} وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة العنكبوت: {وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولًا عليه.
|